نصر الدين عبد الباري، وزير العدل قبل انقلاب 25 اكتوبر، في حوار مع صحيفة الديمقراطي، مرافعة معمقة عن فترة توليه للوزارة.



     نصر الدين عبدالباري يكشف عن معارضة رجاء نيكولا لالغاء قوانين النظام العام

نصرالدين عبدالباري نصرالدين عبدالباري
قدم د. نصر الدين عبد الباري، وزير العدل قبل انقلاب 25 اكتوبر، في حوار مع صحيفة الديمقراطي، مرافعة معمقة عن فترة توليه للوزارة.

ود. نصر الدين عبد الباري كفاءة قانونية مميزة، ومن المشهود لهم بالوضوح والنزاهة والاستقامة. لعب دوراً رئيسياً في رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للارهاب وتحسين صورة البلاد واستعادتها للمجتمع الدولي وفيما ارتبط بذلك من مساعدات اقتصادية دولية.

وقال د. نصر الدين عبد الباري في حواره مع الديمقراطي ان وزارة العدل بدأت الإصلاحات القانونية بإلغاء قوانين النظام العام سيئة الصيت، والتي اتخذها النظام المباد أداةً لإذلال السودانيين، والنساء خاصة، والنساء المنحدرات من الطبقات والمناطق المهمشة، على وجه أخص. وقد وجد إلغاء تلك القوانين ترحيباً على المستويين المحلي والدولي كأول مؤشر على إن الحكومة الانتقالية تسير بخطوات حثيثة لتحرير السودانيين من ترسانة القوانين التي قُصد منها تكبيلهم بمصادرة حقوقهم الأصيلة المستمدة من كرامتهم الإنسانية قبل أي ميثاق دولي أو محلي للحقوق والحريات.
وكشف بانه لم يعترض على إلغاء قوانين النظام العام إلا رجاء نيكولا ( التي استغرب الجميع —بما في ذلك العسكريون في المجلس السيادي—من اعتراضها).

وأضاف ان هنالك أربع قضايا أساسية دفعت العسكريين إلى القيام بالانقلاب، وهي تسليم رئاسة المجلس السيادي إلى المدنيين، وتسليم عمر البشير وعبد الرحيم حسين وأحمد هرون إلى المحكمة الجنائية الدولية، واصلاح القطاع العسكري والأمني، وتفكيك نظام الثلاثين من يونيو. فبشأن التفكيك، مثلاً، كانت لجنة تفكيك نظام الثلاثين من يونيو وإزالة التمكين قد اتخذت خطوات عملية وملموسة. وفيما يتعلق بتسليم المطلوبين للمحكمة الجنائية الدولية، أصدر مجلس الوزراء قراراً بالتسليم. العسكريون، باستثناء شخص واحد أو شخصين، وأنصار النظام القديم بأشكاله المختلفة، كانوا منزعجين كثيراً من عمل اللجنة. وقدم الأستاذ محمد الفكي سليمان تقريراً لمجلس السيادة عن أداء اللجنة وطلب عقد اجتماع مشترك لمناقشة التقرير لتقويم عمل اللجنة، لكن ذلك التقرير لم يقدم للمناقشة في اجتماع مشترك. وأما بخصوص تسليم المطلوبين، فكانوا عملياً رافضين لعقد اجتماع مشترك لمناقشة الأمر واتخاذ قرارٍ نهائيٍ في اجتماع مشترك للمجلسين.
واكد نصر الدين عبدالباري ان هنالك (مبادئ تأسيسية ضرورية لتأسيس دولة حديثة لا يمكن التخلي أو التنازل عنها، مثل مبدأ المواطنة المتساوية، وحرمة تدخل الجيش في السياسة، وما اسميه بعدم انحيازية الدولة، أي عدم تبنيها لأي دين، أو ثقافة، أو لغة، أو هُوية جهوية، أو هُوية إثنية. هذه الطائفة من المبادئ يتوجب تضمينها في مسودة الدستور لأنها ضرورية لحداثة الدولة وديمقراطيتها. بعبارة أخرى، لا ينبغي أن تكون هذه المبادئ خاضعة للنقاش خلال عملية صناعة الدستور إذا كانت الغاية هي بناءُ دولة حديثة وديمقراطية في السودان).

(نص الحوار أدناه):

1. كنتَ وزيراً في الحكومة الانتقالية منذ بدايتها إلى تاريخ الانقلاب عليها في الخامس والعشرين من أكتوبر، العام الماضي. كيف كنتم تنظرون إلى الفترة الانتقالية التي تم تقويضها؟

الثورات في تاريخ العالم تعقبها دائماً فترات بناء أو تأسيس، تكون فيها للناس آمال عريضة وتطلعات كبيرة. وبقدر قوة النظام الدكتاتوري أو النظام الفاسد، الذي قامت ضده الثورة وانتصرت، بقدر ما عظمت آمال المواطنين وتطلعاتهم في هذه الفترات، التي تتسم كذلك بجسامة التحديات وكثرة الاختلافات، وربما قلة الإمكانيات، كما هو الأمر في حالة الثورة السودانية. بناءً على هذه الملاحظة أو الحقيقة التاريخية، التي تصدق على الحالة السودانية، كنت أنظر إلى الفترة الانتقالية على أنها فترة تأسيسية؛ أي على أنها فرصة تاريخية لتأسيس دولة حديثة لم نوفق نحن كشعب في وضع ركائزها منذ نيل الاستقلال. وهذه الخطوة—خطوة التأسيس—ضرورية لمعالجة المشاكل المزمنة التي ظل السودان يعاني منها، الاستبداد والحروب. وكل الأمم التي انطلقت بدأت بهذه الخطوة، التي تضمن الاستقرار السياسي والوحدة الوطنية، الشرطان اللازمان للانطلاق والنهضة، وتحقيق الآمال والتطلعات العظيمة، خاصةً في اعقاب أي تغيير ثوري أو جذري.

2. كيف قمتم بعكس هذه النظرة أو الرؤية في وزارة العدل؟

من المعروف أن النظام القديم، نظام الانقاذ المباد، دمر المؤسسات البيروقراطية للدولة وذلك بتسييسها، وبالفساد، وحرمان العاملين بها من التدريب المستمر، وبناء مؤسسات موازية في بعض الحالات، حولت المؤسسات الرسمية إلى مؤسسات صورية. فمهمتنا في الحكومة الانتقالية، بسبب هذا الدمار، لم تكن هي البناء والتأسيس فحسب، وإنما كذلك معالجة الخراب الذي استمر ثلاثين عاماً، الأمر الذي جعل مهمتنا أعسر وخطواتنا في القيام بها أبطأ وأثقل.

كانت رؤيتنا، التي طورناها ووجهت عملنا خلال الفترة الانتقالية، هي بناءُ وزارة رائدة لنظام عدلي متميز وخدمات قانونية ميسرة ومتميزة. مضينا خطوات في تحقيق الرؤية، وذلك بوضع تصور لبناء الوزارة كمؤسسة، بإجراء إصلاحات مؤسسية، عبر برنامج اسميناه برنامج الإصلاح والتحول المؤسسي. بدأنا هذا الجزء من العمل بدراسة تقييمية شاملة للوزارة قامت بها شركة DT-Global الأمريكية والهيئة الاستشارية لجامعة الخرطوم بدعم من وكالة الولايات المتحدة للتنمية الدولية، حددت مواطن الضعف والقوة بوزارة العدل، وقدمت توصيات مفصلة بخصوص ما ينبغي القيام به على المدى القصير، والمدى المتوسط، والمدى البعيد، من أجل بناء وتحديث وزارة العدل. لتنفيذ هذه التوصيات، قمنا بخطوات متعددة نذكر منها تمكننا من وضع خطة استراتيجية مدتها خمس سنوات، وأعددنا مقترحاً لإصلاح الهيكل التنظيمي لوزارة العدل، وحصول الوزارة على دفعة أولى من الأجهزة والمعدات الضرورية لرقمنة وزارة العدل، بتكلفة بلغت 200 ألف دولار، تبرعت بها وكالة الولايات المتحدة للتنمية الدولية.

أولت الوزارة المهام المتعلقة بالانتقال والتحول الديمقراطي اهتماماً خاصاً، فبدأت، بعد إقالة رموز النظام والفساد من المواقع القيادية ومواقع صناعة القرار، بإعداد مسودات ثلاثة قوانين مهمة، هي مسودة قانون الغاء قوانين النظام العام في السودان، ومسودة قانون تفكيك نظام الثلاثين من يونيو وإزالة التمكين، وقانون التعديلات المتنوعة (بشأن الحقوق والحريات الأساسية)، الذي ألغى الأحكام المتعارضة مع الحقوق والحريات الأساسية الواردة في الوثيقة الدستورية. لقد أُجيزت مسودات هذه القوانين بواسطة المجلسين دون أي عقبات. فمشروع قانون الغاء قوانين النظام العام، على سبيل المثال، لم تستغرق إجازته سوى دقائق معدودات، ولم يعترض على إجازته إلا الأستاذة رجاء نيكولا، التي استغرب الجميع—بما في ذلك العسكريون في المجلس السيادي—من اعتراضها.

3. على ذكر القوانين الثلاثة التي بدأت الوزارة بإعدادها وتقديمها للإجازة، هل يمكن أن تتحدث بتفصيل أكثر عن الإصلاح القانوني خلال الفترة الانتقالية، بما في ذلك بشأن هذه القوانين الثلاثة، ولماذا كانت البداية بها؟

هذا سؤال مهم للغاية، وذلك بسبب أن تنفيذ مهام الحكومة الانتقالية، المنصوص عليها على وجه التحديد في المادة الثامنة من الميثاق الدستوري الحاكم للفترة الانتقالية، كان يقتضي إيلاء الإصلاح القانوني اهتماماً خاصاً، وسن تشريعات جديدة لتوفير الإطار القانوني اللازم لعمل الحكومة. لكنني سوف أبدأ إجابتي بلماذا بدانا بهذه القوانين الثلاثة على وجه التحديد.

بدأت وزارة العدل، كما ذكرت، الإصلاحات القانونية بأول قانون أُجيز خلال الفترة الانتقالية وهو قانون بإلغاء قوانين النظام العام سيئة الصيت، والتي اتخذها النظام المباد أداةً لإذلال السودانيين، والنساء خاصة، والنساء المنحدرات من الطبقات والمناطق المهمشة، على وجه أخص. وقد وجد إلغاء تلك القوانين ترحيباً على المستويين المحلي والدولي كأول مؤشر على إن الحكومة الانتقالية تسير بخطوات حثيثة لتحرير السودانيين من ترسانة القوانين التي قُصد منها تكبيلهم بمصادرة حقوقهم الأصيلة المستمدة من كرامتهم الإنسانية قبل أي ميثاق دولي أو محلي للحقوق والحريات.

إن تحقيق أهداف الحكومة الانتقالية كان يعتمد، من بين أشياء أخرى، على تفكيك النظام المباد، الذي هو التزام صريح منصوص عليه في الوثيقة الدستورية، وجزءٌ لا يتجزأ من تدابير العدالة الانتقالية بمفهومها العريض. لذلك كان ثانِ قانون تعده وزارة العدل وتعتمده الحكومة الانتقالية هو قانون تفكيك نظام الثلاثين من يونيو لسنة 1989 وإزالة التمكين، الذي حل حزب المؤتمر الوطني فوراً، وتأسست بموجبه لجنة تفكيك نظام الثلاثين من يونيو واسترداد الأموال العامة، والتي قادت عملاً ثورياً تاريخياً في استرداد الأموال التي استولى عليها قادة وأنصار النظام المباد عن طريق الفساد، وإعفاء الاشخاص الذين تم تعيينهم في مؤسسات الدولة بسبب الولاء لحزب المؤتمر الوطني المحلول، أو بالمخالفة للقانون والأنظمة الحاكمة للتوظيف في المؤسسات العامة.

ولأن الحرية كانت الركن الأول والركين من أركان شعار ثورة ديسمبر الخالدة (حرية، سلام، وعدالة)، أعدت وزارة العدل وأجاز مجلس الوزراء في أشهره الأولى من العمل مشروع قانون التعديلات المتنوعة بشأن الحقوق والحريات الأساسية، الذي ألغى الأحكام المقيدة للحقوق والحريات الأساسية. وقد كان أبرز سمات هذا القانون هو الغاء تجريم الردة والتعامل في الخمر لغير المسلمين والأحكام الفضفاضة المتعلقة بالزي والسلوك الشخصي وتجريم تشويه الأعضاء التناسلية للإناث. إن هذا القانون ألغى، باختصار، جميع الأحكام القانونية المتعارضة مع الأحكام التي تنص على حقوق الإنسان في الوثيقة الدستورية.

وفي هذا الصدد، عملت الحكومة الانتقالية باقتراح من وزارة العدل ومساعدتها الفنية من أجل تحسين سجل السودان في الانضمام إلى اتفاقيات حقوق الإنسان الإقليمية والعالمية باتخاذ قرار بالشروع في الانضمام إلى اتفاقيات حقوق الإنسان التي لم ينضم إليها السودان بعد، فتمت إجازة الانضمام إلى اتفاقية مناهضة التعذيب، واتفاقية حماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري، واتفاقية الحرية النقابية وحماية حق التنظيم النقابي (اتفاقية رقم 87). كما أجاز مجلس الوزراء مشروع قانون بالانضمام إلى اتفاقية القضاء على كافة اشكال التمييز ضد المرأة (سيداو)، وبروتوكول حقوق المرأة في أفريقيا الملحق بالميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان والشعوب (بروتوكول مابوتو)، وقانون بالانضمام إلى نظام روما، المؤسس والمنظم لعمل المحكمة الجنائية الدولية.

على صعيد القوانين المتعلقة بالإصلاح الاقتصادي، أجازت الحكومة الانتقالية طائفة من القوانين كان أهمها قانون الشراكة بين القطاع العام والخاص، وهو أول قانون في تاريخ السودان ينظم علاقات الشراكة بين القطاع العام والقطاع الخاص، كما أنه من أفضل القوانين في المنطقة الافريقية والعربية من حيث حداثة الأحكام وتماشيها مع المعايير العالمية ذات الصلة. كما أجازت الحكومة قانوناً جديداً للاستثمار وقانوناً تم بموجبه اعتماد النظام المصرفي المزدوج (التقليدي والإسلامي) في إطار تدابير الانفتاح الاقتصادي وإعادة دمج السودان في النظام المالي الدولي.

أما بخصوص التشريعات ذات الصلة المباشرة بالتحول الديمقراطي والمؤسسات المساندة لها (المفوضيات)، فقد أجازت الحكومة الانتقالية قانون مفوضية العدالة الانتقالية وقانون مفوضية مكافحة الفساد، وقانون مفوضية السلام، وقانون مفوضية اصلاح المنظومة الحقوقية والعدلية. كما أعدت وزارة العدل وشرعت في المشاورات العامة حول مشروع قانون صناعة دستور السودان، ومشروع قانون مفوضية الانتخابات، وقانون مفوضية حقوق الإنسان. وقد كانت الخطة هي إكمال المشاورات بنهاية شهر نوفمبر 2021 وإجازة هذه القوانين وتأسيس هذه المفوضيات ذات الأهمية القصوى خلال شهر ديسمبر 2021، لولا وقوع الانقلاب.

وعلى وجه الإجمال، تمكنت الحكومة برغم التحديات الكبيرة التي واجهتها بسبب ضعف المؤسسات البيروقراطية للدولة، من إجازة 14 قانوناً جديداً، وتعديل 12 قانوناً، وتعديل 10 قوانين أخرى بقوانين تعديلات متنوعة، والغاء 5 قوانين، وإعداد 96 مشروع قانون كان العمل يجري بخطى حثيثة لإجازتها.

هنالك نقطة مهمة لابد من ذكرها بخصوص التشريع والإصلاح القانوني، وهي أننا أدخلنا خلال الفترة الانتقالية والتزمنا بمبدأ مهم في عملية التشريع، هو مبدأ ديمقراطية العملية التشريعية، وهو مبدأٌ أساسي من مبادئ التشريع في الدولة الديمقراطية الحديثة، يقضي، من بين اشياء أخرى، بمشاركة أكبر قطاعات ممكنة من خارج المؤسسات الحكومية في تحديد محتوى القوانين بإبداء الرأي فيها، وربما باقتراحها ابتداءً للأجهزة والمؤسسات الرسمية للدولة.

وعلى الرغم من أهمية الالتزام بهذا المبدأ فيما يتعلق بكل أو جل القوانين، إلا أن الالتزامُ به في صناعة قوانين التحول الديمقراطي، وبخاصة قانون مفوضية الانتخابات، وقانون الانتخابات، وقانون صناعة الدستور، ذو أهمية خاصة، لاسيما في عهدنا الجديد عهدُ التأسيس، ربما لأول مرة في التاريخ السياسي والدستوري للسودان، لدولة جديدة كنا نتطلع ونعمل من أجل أن تكون ديمقراطية وتعددية وحديثة، لا تنحاز إلى ثقافة جماعة محددة أو طائفة دينية أو عرقية أو جهوية بعينها.

هذا المبدأ اكتسب أهمية أكبر وأعظم، خلال فترة الانتقال، لأننا كنا نعمل من أجل وضع أسسٍ راسخة لنظام سياسي كنا نريد تصميمه بوجهٍ يضمن المشاركة الشعبية الفاعلة في إدارة الحكومة، التي ينبغي أن تكون سلطاتها محددة ومحدودة في المجتمع الديمقراطي الحقيقي.

4. ماذا عن العدالة، القضية المحورية في الانتقال وفي أي ثورة قامت في العصر الحديث؟

أولت الحكومة الانتقالية منذ أيامها الأولى قضية العدالة أهمية قصوى، باعتبارها مطلباً دستورياً وجماهيراً لا يمكن تجاوزه أو تجاهله. وقامت فيما يتعلق بالعدالة بإصدار قرار في أكتوبر من العام 2019 بتكوين لجنة للتحقيق في الانتهاكات التي وقعت في فض اعتصام القيادة العامة في الخرطوم والولايات الأخرى. ولمنح اللجنة سلطات أقوى، أصدرت قراراً جديداً بخصوص اللجنة، وذلك بعد تعيين نائبٍ عامٍ جديد يحمل ويعكس آمال ثورة أكتوبر المجيدة ويمكن التعاون معه في التحقيقات المتعلقة بجريمة فض الاعتصام. وعملت بجدٍ بعد ذلك على معالجة العثرات المتعاظمة التي كانت تواجه اللجنة في القيام بمهامها، والتي كان من بينها ضعف القدرات الفنية التي اقتضت الاستعانة بمؤسسات إقليمية. واجهت اللجنة تحديات كبيرة في عملها ولم تتمكن حتى تاريخ الانقلاب على الحكم المدني من تقديم تقريرها، وأعتقد أن الشخص المناسب للحديث عن تلك التحديات وبيانها للشعب هو رئيسها.

أما فيما يتعلق بالانتهاكات الأخرى التي ارتكبها النظام المباد، خاصة في مناطق النزاعات، فقد كانت معالجتها شرطاً لازماً لنجاح الانتقال نحو مجتمع ديمقراطي ودولة جديدة، قائمة على التسامح وحكم القانون. للقيام بذلك، أجازت الحكومة الانتقالية قانون مفوضية العدالة الانتقالية وقررت منذ يومها الأول التعاون مع المحكمة الجنائية الدولية، التي وقعت معها وزارة العدل ثلاث مذكرات تفاهم مكنت المحكمة من العمل في السودان بخصوص القضايا المتعلقة بالأشخاص السودانيين المطلوبين لدى المحكمة الجنائية الدولية للجرائم التي اقترفوها في إقليم دارفور. وهذا التعاون مع المحكمة كانت جزءاً من رؤية وزارة العدل والحكومة الانتقالية الشاملة للعدالة الانتقالية التي تشمل، بحسب أحكام قانون مفوضية العدالة الانتقالية المجاز، التعاون والتنسيق مع الآليات الدولية، والمحاسبة أو العدالة الجنائية، والإصلاح المؤسسي وجبر الضرر.

واتساقاً مع رؤية الحكومة القائمة على التشاور مع أصحاب المصلحة، نص قانون مفوضية العدالة الانتقالية، الذي أجيز بعد مشاورات واسعة مع المجتمع المدني والسياسي، على أن تقود المفوضية مشاورات شعبية يتم على ضوئها سن قانون للعدالة الانتقالية يحتوي من بين أشياء أخرى على رؤية السودانيين وتصوراتهم حول العدالة الانتقالية، والآليات التي يرون أنها مناسبة لتنفيذ العدالة الانتقالية بجانب المؤسسات التقليدية لتصريف العدالة كالقضاء والنيابة العامة.

بخصوص العدالة، هنالك قضايا جنائية كثيرة كانت تحقق فيها النيابة العامة أو قدمتها للمحاكم وكانت ولا زالت تتابعها، وقد كان السير فيها بلا شك بطيئاً. وبحكم الاختصاص، أعتقد أن الجهة المناسبة للحديث عن تلك القضايا والبطء الذي لازم عملية الفصل فيها، هي النيابة العامة والسلطة القضائية المسؤولتان دستورياً وقانونياً عن إدارة وتصريف العدالة الجنائية من الناحية العملية.

5. ننتقل من عملكم بالوزارة إلى الانقلاب العسكري في الخامس والعشرين من اكتوبر. من واقع عملكم في الحكومة، ومن وجهة نظركم الشخصية، لماذا قرر العسكريون الانقلاب على الفترة الانتقالية؟

في أي وضع ثوري أو تحولي نحو الديمقراطية، هنالك دوماً صراع متأصل بين النظام القديم [الجديد]، أي ثورة ديسمبر في حالتنا، والنظام القديم، أي نظام الانقاذ المباد، وأفكاره ومؤسساته، التي كان استئصالها يتطلب عملاً حثيثاً وكبيراً ووقتاً طويلاً. انقلاب الخامس والعشرين من أكتوبر هو باختصار انعكاس لهذا الصراع الثابت في أي انتقال ثوري لنظام جديد بغض النظر عن طبيعته. فالمؤسسات التي وجدناها، خاصة العسكرية منها، كانت تعكس في أوجه كثيرة النظام القديم، الذي قامت الثورة في وجهه. والفكاك من النظام القديم هو من أصعب المهام في أي ثورة. حتى في الثورة الفرنسية كان التحرر من النظام القديم أمراً صعباً. انتكست الثورة الفرنسية، كما نعلم، وأسس الفرنسيون نظاماً مركزياً، رغم أن الثورة قامت، من بين أشياء أخرى، ضد المركزية والاوتوقراطية، كما بيَّن ذلك المفكرُ الفرنسي المعروف، أليكسيس دو توكفل، في كتابه المشهور “النظام القديم والثورة الفرنسية،” الذي طور فيه نظريته الأساسية بخصوص العلاقة بين النظام القديم والثورة، وهي “نظرية الاستمرارية.”

كانت الحكومة المدنية تمثل في قيادتها السياسية العليا بمجلس الوزراء وقوى الحرية والتغيير الداعمة لها نظاماً جديداً، بدأ يتشكل منذ أول يوم في الفترة الانتقالية. والخطوات التي اتخذناها في وزارة العدل واتخذتها الوزارات الأخرى كانت تهدف إلى التغيير ووضع الأسس اللازمة لهذه النظام الجديد وتحقيق أهداف الثورة. بعض هذه الخطوات لم يكن حولها خلاف بين المدنيين والعسكريين، مثل أغلب الاصلاحات الاقتصادية التي أدت إلى استقرار اقتصادي نسبي ووفرة في السلع الاستراتيجية وإعادة العلاقات مع المؤسسات المالية الدولية.

لكن هنالك أربع قضايا أساسية كانت الحكومة المدنية (وقوى الحرية والتغيير) اتخذت بشأنها خطوات أو قرارات، هي محل خلاف كبير بين الطرفين وهي التي دفعت العسكريين إلى القيام بالانقلاب، وهي تسليم رئاسة المجلس السيادي إلى المدنيين، وتسليم عمر البشير وعبد الرحيم حسين وأحمد هرون إلى المحكمة الجنائية الدولية، واصلاح القطاع العسكري والأمني، وتفكيك نظام الثلاثين من يونيو. فبشأن التفكيك، مثلاً، كانت لجنة تفكيك نظام الثلاثين من يونيو وإزالة التفكيك قد اتخذت خطوات عملية وملموسة. وفيما يتعلق بتسليم المطلوبين للمحكمة الجنائية الدولية، أصدر مجلس الوزراء قراراً بالتسليم. العسكريون، باستثناء شخص واحد أو شخصين، وأنصار النظام القديم بأشكاله المختلفة، كانوا منزعجين كثيراً من عمل اللجنة. قدم الأستاذ محمد الفكي سليمان تقريراً لمجلس السيادة عن أداء اللجنة وطلب عقد اجتماع مشترك لمناقشة التقرير لتقويم عمل اللجنة، لكن ذلك التقرير لم يقدم للمناقشة في اجتماع مشترك. وأما بخصوص تسليم المطلوبين، فكانوا عملياً رافضين لعقد اجتماع مشترك لمناقشة الأمر واتخاذ قرارٍ نهائيٍ في اجتماع مشترك للمجلسين.

في النظام الديمقراطي هنالك أهمية كبيرة للالتزام بقيم ومبادئ مثل التداول والمؤسسية، أياً كانت النتائج التي تأتي من التداول أو الالتزام بالمؤسسات المخصصة دستورياً للتداول. كان المنهج الصحيح هو التداول حول هذه القضايا الخلافية بين المدنيين والعسكريين في المؤسسات المختصة التي نصت عليها الوثيقة الدستورية أو الانخراط في حوار أو نقاش سياسي للتوصل لرؤية مشتركة بشأنها. كان هنالك رفض للتداول وللالتزام بالمؤسسية، لأن العسكريين كانوا يعلمون أن القرارات سوف تكون لصالح المدنيين المعبرين والمدافعين عن التغيير والنظام الجديد، بسبب أغلبيتهم الميكانيكية في اجتماع المجلسين. لذلك لجأوا إلى منطق السلاح لحسم الخلاف لصالح موقفهم، الذي يعبر عن أو يتطابق مع موقف النظام القديم.

6. كنتَ قد تحدثتَ عن الأموال التي فقدها السودان بسبب هذا الانقلاب علي صفحتكم في تويتر. هل يمكن أن تحدثتا عن ذلك؟

فَقَدَت البلادُ قبل الأموال الشباب الذين أُزهقت أرواحهم لممارسة حقهم الطبيعي في التعبير عن الرأي سلماً. وفقدت البلاد قبل الأموال سُمعتها الدولية كأرض انفجرت فيها ثورةٌ عظيمةٌ، جلس فيها العسكريون والمدنيون واتفقوا من أجل الوطن، ليعملوا معاً من أجل بناء دولة جديدة بنظام ديمقراطي، مُغيِّرين بذلك الصورة السائدة عن أفريقيا وعن دول العالم الثالث عن الصراع الدائم أو المتكرر بين العسكر والمدنيين حول السلطة. هذا الانقلاب رسخ هذا الصورة السائدة، وحوَّلنا من بقعة مضيئة على خريطة أفريقيا وخريطة العالم، كانت مصدر إلهام للمتطلعين للحرية والديمقراطية، إلى بقعة مظلمة، يُقتل فيها شبابٌ سلميون، ويُعتقل فيها سياسيون معارضون، وتتدهور فيها الأوضاع الاقتصادية بسبب عدم الاستقرار السياسي والعزلة الدولية، التي سوف تتزايد إذا استمر قادة الانقلاب على المضي في الطريق الخطأ الذي يسيرون عليه الآن.

أما من الناحية الاقتصادية، فكما كتبتُ من قبل، فقد خسرنا، على سبيل المثال لا الحصر، 2 مليار دولار، هي منحة من البنك الدولي ومؤسسة التنمية الدولية لدعم 9 قطاعات، منها الصحة والكهرباء؛ ومليار دولار، هي دعم إضافي من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي كان استلامها بنهاية العام 2021؛ ومليار دولار، هي مساعدات مالية مجازة من الكونغرس الأمريكي؛ و500 مليون دولار، منحة من البنك الدولي لبرنامج ثمرات، موجودة حالياً بالبنك الدولي لصالح السودان؛ و 2مليار دولار، هي استثمارات من بنك EXIM الأمريكي، وهيئة التمويل التنموي الدولية (للبداية فقط وكانت الخطة أن تصل إلى 8 مليار دولار)؛ وايقاف إعفاء 40 مليار دولار من الديون، كانت الإجراءات سوف تكتمل بخصوصها بنهاية العام 2021/بداية 2022؛ و1.2 مليون طن من القمح المقدم كمنحة من الولايات المتحدة (استلم السودان منها 250000 طن).

هذا، علاوة على أن الاستقرار السياسي، الذي يحدث بسبب الخطوات الايجابية المتخذة نحو التحول الديمقراطي، والحديث الايجابي عن السودان في المحافل الدولية، يشجع المستثمرين على التخطيط للاستثمار في السودان. بعبارة أخرى، فَقَدَ الاقتصاد السوداني الثقة القليلة التي بدأت تتشكل عنه بسبب التحولات السياسية الايجابية.

7. كثيرٌ من الناشطين في الميديا الاجتماعية انتقدوا أو استغربوا من صمتكم في الأيام الأولي للانقلاب، إذ كانوا يتوقعون منكم وصف ما تم بأنه انقلاب باعتباركم تمثلون وزارة العدل، والتعبير عن موقفك بشأنه؟

الذي تم في الخامس والعشرين من أكتوبر لم يكن أبداً بحاجة إلى تكييف قانوني من وزارة العدل أو أي شخص آخر، إذ كان من الواضح منذ الساعات الأولى، وضوح الشمس في رابعة النهار، أنه انقلابٌ عسكريٌ، بدليل أن الناس قد خرجوا في أغلب مدن السودان للتعبير عن رفضهم له. الانقلابُ على النظام الدستوري هو عمل سياسي، معادي للديمقراطية، يؤدي إلى تقويض النظام الدستوري برمته، وبالتالي مواجهته ليس بالأدوات أو المؤسسات القانونية غير الموجودة أصلاً بمجرد وقوع الانقلاب. الذي كان مطلوباً من الناحية المنطقية والواقعية هو القيام بعمل سياسي منظم مضاد للانقلاب، ليس من الضروري أن يكون علناً. لذلك، من وجهة نظري، كان العمل على التصدي للانقلاب هو الخطوة المطلوبة والمهمة من جانبنا كوزراء مجتمعين وليس كأفراد متفرقين. وكانت رؤيتي الشخصية هي أن يتخذ الأعضاء غير المعتقلين من مجلس الوزارة بقيادة رئيس الوزراء موقفاً موحداً بقيادة رئيس المجلس باعتباره رئيس الحكومة بمقاومة الانقلاب والتمسك بشرعية الحكومة المدنية. عندما تعذر ذلك، عملتُ مع الأستاذ محمد حسن التعايشي، والأستاذ منعم سليمان، والدكتور أديب يوسف، على اقناع بعض فصائل الجبهة الثورية غير المشاركة في الانقلاب بالوقوف مع القوى المدنية الرافضة لتقويض النظام الدستوري، كما عملنا على حض المجتمع الدولي والبعثات الدبلوماسية الغربية المعتمدة لدى السودان على الوقوف مع المدنيين العاملين من أجل الضغط على قادة الانقلاب للتراجع عن الانقلاب والتوقف عن استخدام العنف المفرط ضد المدنيين المناهضين للحكم العسكري. وفي يوم 21 نوفمبر، كتبنا تحليلاً مفصلاً عن الاتفاقية التي وقعها رئيس الوزراء مع قائد الانقلاب بيَّنا فيه بجلاء كيف أن تلك الاتفاقية شرعنت الانقلاب وأغفلت قضايا محورية لا يمكن استعادة مسار التحول الديمقراطي بدون التطرق إليها ومعالجتها. أرسلنا ذلك التحليل إلى الجهات الدولية المؤثرة التي كانت ترى في ذلك الاتفاق أملاً، بينما كان الشعب يرفضه.

8. من وجهة نظركم، ما هو المخرج من المأزق الذي أدخلنا فيه الانقلاب، وهو قد فشل من الناحية العملية؟

في رأيي المتواضع، المخرج هو تأسيس حكومة مدنية كاملة تتولى مهمة إرساء أسسِ دولةٍ سودانيةٍ حديثة تلتزم فيها المؤسسة العسكرية بالمبادئ الثابتة، المنظمة للعلاقة بين المؤسسة العسكرية والمؤسسات المدنية في المجتمع الديمقراطي، وأهمها على الإطلاق مبدأ عدم تدخل الجيش في السياسة. في هذه الحكومة المدنية الكاملة، ينبغي أن يتمتع الرئيس أو رئيس الوزراء بسلطات واسعة، حتى يتمكن من قيادة الانتقال بفعالية وحيوية.

بعضُ الناس يتحدثون عن تنظيمِ انتخابٍ أولاً لاختيار حكومة تقوم ببناء الدولة الديمقراطية التي ننشدها. هذا الرأي يتجاهل تاريخ السودان، الذي يبين أن التأسيس أولاً ثم الانتقال إلى تنظيم الانتخاب هو المنهج الصحيح الواجب اتباعه. أن أحد أسباب فشل الحكومات الانتقالية السابقة هو اللجوء إلى الانتخابات قبل الاتفاق على المبادئ التأسيسية للدولة وبناء المؤسسات ووضع الأنظمة اللازمة للديمقراطية. وكما بيتُ في إجابتي عن السؤال الأول، كل الأمم التي انطلقت في اعقاب أزمات مرت بها، كجنوب أفريقيا وإثيوبيا، اتفقت على أسس الدولة الجديدة أولاً، ثم نظمت انتخابات لاختيار حكومة لا يجوز لها الخروج على تلك الأسس؛ وإذا خرجت عليها تعتبر منقلبة وتفقد شرعيتها ويجوز، بل يجب، مقاومتها بكل الوسائل المشروعة. الاتفاق على مبادئ تأسيسية يتم بحسب أحدث التجارب التأسيسية السياسية والدستورية عبر عملية صناعة الدستور، التي نصت عليها الوثيقة الدستورية وعلى تأسيس مفوضية للقيام بها. وقد وضعت وزارة العدل مسودة قانون لتنظيمها وضمان مشاركة جميع السودانيين فيها. أثناء إعداد مشروع القانون، أطلعنا ودرسنا أفضل التجارب والممارسات، خاصة تجربتي جنوب أفريقيا وكينيا، اللتان تعتبران نموذجاً لعملية صناعة الدستور، وهي في الواقع حوار وطني منظم بقانون بُغية التوصل إلى توافق وطني حول القضايا التأسيسية.

هنالك مبادئ تأسيسية ضرورية لتأسيس دولة حديثة لا يمكن التخلي أو التنازل عنها، مثل مبدأ المواطنة المتساوية، وحرمة تدخل الجيش في السياسة، وما اسميه بعدم انحيازية الدولة، أي عدم تبنيها لأي دين، أو ثقافة، أو لغة، أو هُوية جهوية، أو هُوية إثنية. هذه الطائفة من المبادئ يتوجب تضمينها في مسودة الدستور لأنها ضرورية لحداثة الدولة وديمقراطيتها. بعبارة أخرى، لا ينبغي أن تكون هذه المبادئ خاضعة للنقاش خلال عملية صناعة الدستور إذا كانت الغاية هي بناءُ دولة حديثة وديمقراطية في السودان.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

بين مريـم الأُخــــرى والمجدلية محمد عبد الله شمو

الخطاب التأريخي للدكتور جون قرنق ديمابيور اتيم أثناء إتفاقية السلام الشامل في العام 2005م

#الطير #المهاجر .. محمد وردي