كَان مَنْصُورًا وسيظل خَالِدًا لِكَيْمَا تَكْتُبْ عَنْ رَجُلٍ بقامة وَتَفَرَّد الدكتور مَنْصُور خَالِد
كَان مَنْصُورًا وسيظل خَالِدًا
لِكَيْمَا تَكْتُبْ عَنْ رَجُلٍ بقامة وَتَفَرَّد الدكتور مَنْصُور خَالِد ، يَجِبُ عَلَيْك أَنْ تتسلح بِالْمَعْرِفَة الْعَمِيقَة ، وَالتَّجْرِبَة الثرة وَالثَّقَافَة الْمُطْلَقَة وَالِاتِّسَاق الصَّارِم ، وَفَوْقَهَا جَمِيعًا الْقَلَم الرَّشِيق وَالْمُفْرَدَة الْأَنِيقَة ، وَهَذَا مِمَّا أفتقده جَمِيعًا قَطْعًا ، وَلَكِن رَحِيلِه الفاجع يَشْفَعَ لِي ، وَلَو بِأَجْر الْمُحَاوَلَة ، فمنصور يَجْمَعُ كُلَّ هَذَا وَالْكَثِيرُ مِنْ الصِّفَاتِ الأخري الَّتِي قَلَّمَا تُوجَد و تَجْتَمِع في، و لِشَخْصٍ وَاحِدٍ ، وَلَكِن جَمَعَهَا دُكْتُور مَنْصُور جَمِيعِهَا ، فَكَان مَنْصُورًا فِي حَيَاتِهِ الْعَامِرَة والحافلة والناجحة ، وَقَطْعًا سَيَظَلّ خَالِدًا فِي ذَاكِرَة هَذا الشَّعْب بشطريه شِمَالًا وَجَنوبا بِمَا تَرَكَهُ مِنْ إرْثٍ فِكْرِي وَسِياسِيٌّ ومعرفي كَبِيرٌ ، بَذْلُه مِدَادًا متفردا فِي جَمِيعِ مُؤَلَّفَاتِه وَاَلَّتِي ستظل إرْثًا توثيقيا ومعرفيا وفكريا وسياسيا وَأَدَبِيّا .
النُّجُوم العملاقة جِدًّا لَا تَمُوتُ . وَإِنَّمَا تَنْفَجِر وَتَتَشَكَّل مِن رفاتها نُجُومًا جَدِيدَة فتسهم فِي دَيْمُومَة هَذَا الْكَوْن وَتَمَدُّدِه الشَّاسِع وَالْمُسْتَمِرّ ، لتلمع بَيْن الرُّكَام شَرَارَةٌ خَلْقٍ جَدِيدٍ .
وَأَظُنّ وَإنَّ بَعْضَ الظَّنِّ يَقِين ، أَن د . مَنْصُور خَالِد كَان نَجْمًا ضَخْمًا فِي سمائنا ، قَوِيٌّ الضِّيَاء المعرفي ، كَثِيف حَرَارَة الْوَعْي ، تَشَكَّلَت فِي دَاخِلِهِ نَوَاة صلدة وَصَلَبَة مِن مَزِيج مَعْرِفِي وفكري وَسِياسِيٌّ وتاريخي وأدبي .
هَذِه الطَّاقَة المعرفية المأهولة بَذْلُهَا لَنَا د . مَنْصُور خَالِدٌ مِنْ خِلَالِ إنْتَاجِه ومنتوجه الْكِتَابِيّ والتوثيقي الضَّخْم وَالْمُتَعَدِّد ، الَّذِي كَانَ فِي كُلِّ كِتَابٍ وَسَفَر ومقال وَلِقَاء ، مَزيجا فَنِّيا راقيا ، مِنْ ثَقافَةٍ عَالِيَةً ، ووعي مُتَّقِد ، وَنَظَرُة فاحصة وَنَقَد مَنْهَجِي ، وَلُغَة أَدَبِيَّةٌ رَفِيعَةٌ ذَات مُفْرَدَات ثَرّة وأنيقة ، فَعِنْدَمَا تَقْرَأ لدكتور مَنْصُور فَأَنْت تَقْرَأ مَزِيج مَعَارِف فِي وَقْتِ وَاحِدٍ ، فَفِي قَلَمِه ومداده حبْر السِّياسِيّ الْحَاذِق والمفكر الْمُتَعَمِّق والفيلسوف النابه وَالْمُؤَرِّخ الْمُنْضَبِط والأديب الْمُتَمَكِّن والمتصوف الْمُتَأَمل . فَقَدْ شَرِبَ وَتَشْرَبُ مِنْ كُلِّ فيوض الْمَعْرِفَةِ وَالْعِلْمِ وَالْبَحْث حَتَّي أَرْتَوِي مِنْهَا .
كغيري مِنْ أَبْنَاءِ جِيلِي والأجيال الَّتِي سَبَقْتَنِي وأجيال أَتَت بَعْدِي و أَخِّرِي سَتَأْتِي ، نَهِلَت مِنْ مَعْرِفَةِ وكتابات مَنْصُور خَالِد ، وشكلت هَذِه الْقِرَاءَات نتوءات صلدة وَصَلَبَه فِي الْوَعْي وسحائب ماطرة فِي اللاوعي ، أسهمت بِشَكْل كَبِيرٌ وباكر فِي تَشْكِيل فَهْمِي ورؤاي لتعقيدات وَاقَعْنَا السِّياسِيّ وَالْفِكْرِيّ ، ومكنتني مِنْ أَنَّ اخْتَارَ بِكُلّ يَسَّر ومرونة مَكَان وُقُوفِي وَأَيّ الطُّرُق اخْتَار وَأُسَيْرٌ وَأَيّ الْمَدَارِس الْفِكْرِيَّة أرْتَاد وأيمم وجهي.
فِي رِحْلَتِهِ الطَّوِيلَة الشَّائِكَة والممتدة والمفيدة فِي معارج السِّيَاسَة السُّودانِيَّة ، قَدِم لَنَا د . مَنْصُور خَالِد دروسا نِيرَة فِي مَحَبَّةِ الوَطَن والإنحياز إلَيّ قَيِّم الْحَقّ وَالضَّمِير ، وَكَسْر تابوهات التَّقْدِيس الْأَجْوَف لِكَثِيرٍ مِنْ الْأَشْخَاص وَالْأَفْكَار وَالسِّيَاسَات الَّتِي تَخُصّ أَهْل الْمَرْكَز وَطَرَائِق تفكيرهم ونظرتهم لِلشَّأْن السُّودَانِيّ ، وَاَلَّتِي كَان الاقْتِرابِ مِنَ مدارات نَقْدِهَا ضَرْبًا مِنْ الْجُنُونِ لِأَنَّهُ يُعْتَبَرُ إنتحارا بَوَاحًا بِمَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ وَالْمَجَازِيِّ ، وَلَكِنْ لِأَنَّهُ مَنْصُور وسيظل خَالِدًا ، اخْتَار الانْحِياز إلَيّ ضَمِيرِه وَقِيمَة ، كَمَا أَنَّ لشخصيته الواثقة والقوية والمتحدية ، دُورًا فِي رُكُوبِ صِعَاب الطُّرُق وَشَاقٌّ الدُّرُوب ، فَوَصَل قَطْعًا إلَيّ مُبْتَغَاه ، وَحَقَّق حَقِيقَةِ ذَاتِهِ كَمَا يَقُولُ الْمُتَصَوِّفَة، الْمُحِبّ لَهُم والناهل مِن عُذِّب تواضعهم وزهدهم ، وَأَوْصَل مَعَه ألَافًا مِمَّن تعلموا منه و سَارُوا عَلِيّ ذَات دُروبه إعْلَاء لِقَيِّم أَنْسَانِية سامقة وباذخة .
سَيَظَلّ د . مَنْصُور خَالِد نَجْمًا بَهِيًّا مُتَلأْلِئا فِي سَمَاءِ هَذَا الوَطَنِ ، يَشِع ضيائه نُورًا سَاطِعًا وَمَعْرِفَة متوهجة تَشْمَل بفيضواته النورانية أَرْض وطننا الْكَبِيرِ مِنْ حلْفا إلَيّ نمولي وَمَن طوكر للجنينة مَهْمَا كَانَتْ خرائطه الديموغرافية الْآن ومستقبلا فَقَدْ كَانَ أَحَدُ صُنَّاع ومهندسي ثَوْرَة الْوَعْي وَالتَّغْيِير
الجذري وَمِمَّن خدموا بِتَجَرُّد وتفان فِي سَبِيلِ إنتصارها .
وَقَطْعًا سَيَظَلّ د . مَنْصُور الخَالِد ، السُّودَانِيّ الْوَحِيد الَّذِي ستتذكره ذواكر الأَطْفَالُ فِي ياي و جُوبا وَ وَاو ، طوكر وعبري والخرطوم ، وَتَشْمَلُه تمتمات الْكُهُول فِي مريدي وملكال وكتور وَبور ، وَتُحْفَة دَعَوَات وتعويذات الكجور فِي كاودا ويابوس ، تترنم فِي مَحَبَّتِهِ كَنَائِس الشَّمالُ والجَنوبُ وتلهج بِالدَّعَوَات لَه خلاوي أَهْلِه الْمُتَصَوِّفَةِ فِي أُمِّ دُرْمان .
سَبح مَنْصُور خَالِد إلَيّ ضِفَّتِه الأخري وَحِيدًا بِجلْد الْمُحَارِب وَالْفَارِس وَصَبَر الْأَنْبِيَاء ، وَتَوَاضُعُ الْعُلَمَاءِ وَتَرَك لَنَا إرْثًا خَالِدًا ، عَلَنا نستخلص مِنْه عبر الدُّرُوس ، ونستمد مِن وهجه ضَوْء الْخُرُوجَ مِنْ نَفَق إدْمَان الْفَشِل الْمُتَكَرِّر وَالْمُسْتَمِرّ .
فارُوق عُثْمَان
24 أَبْرِيل 2020 .
تعليقات
إرسال تعليق